المقال الثاني :
بقلم
الدكتور : محمد المهدي
[size=16] استشاري الطب النفسي
كان مسترخيا على سريره يقرأ في إحدى كتب البرمجة اللغوية العصبية وشيئا
فشيئا لمعت عيناه وأصابته سعادة غامرة وظل يردد : "أنا غني" .. "أناا غنيي"
.. "أناااا غنيييييي" .. "أناااااااااا غنييييييييي" , وقام يرقص فرحا
وطربا وفي يده الكتاب إلى أن أفاق على طرقات عنيفة على الباب وفتح ليجد
زميله يطالبه بدين عليه عجز عن سداده . هذا الموقف الكوميدي الذي أداه
الفنان الموهوب أحمد حلمي في أحد أفلامه يكثف كل عناصر الموضوع بدقة وأمانة
وخفة ظل , وإذا كانت الرسالة قد وصلت فلا داعي لاستكمال بقية المقال.
من علم النفس إلى التسويق :
كنت (ومازلت مع بعض التحفظات) من المتحمسين جدا لموضوع البرمجة اللغوية
العصبية وما ترتب عليه من برامج للتنمية البشرية على اعتبار أنها جهود تسعى
إلى تحسين نوعية البشر وتحسين أفكارهم والإرتقاء بمشاعرهم وشحذ هممهم ,
وتخليصهم من الأفكار السلبية التي تعطل حركتهم , واعتبرت أن تلك البرمجة هي
امتداد لرسالة علم النفس في محاولته للإرتقاء بالبشر وخاصة أن علماء النفس
رغم إنجازاتهم العظيمة على المستوى الأكاديمي والعلاجي لم يستطيعوا توصيل
علومهم إلى عموم الناس ربما لصعوبة اللغة أو صعوبة التواصل أو نقص مهارات
التوصيل , وربما لأنهم اكتفوا بتوجيه ناتج العلوم النفسية لعلاج المرضى
النفسيين على الرغم من أنه ثبت أن علم النفس به فائض هائل يمكن أن يفيد
الأصحاء في تحسين أحوالهم . وفي السنوات الأخيرة بدأ الإهتمام بدراسة
النماذج البشرية الناجحة والتي وصلت إلى قمة الإنجاز الإنساني المتاحة في
عصرها وذلك لاستخراج قوانين التفوق والإنجاز ليستفيد منه عموم الناس ,
ونشأت فروع مثل علم نفس النمو , وعلم النفس الإجتماعي , وعلم النفس الصناعي
, وعلم النفس السياسي , وعلم النفس الديني , وعلم النفس الإيجابي ,
والخبرات القمية , وغيرها . ومن هنا التقط هذا الخيط أصحاب البرمجة اللغوية
العصبية وحاولوا الإستفادة من العلوم النفسية بمزجها بالعلوم الإدارية
والعلوم الإجتماعية ثم تبسيط هذه العلوم في خليط يسهل تسويقه للناس في صورة
ندوات ومحاضرات وورش عمل , ثم إعطاء دورات تمنح على أثرها شهادات تعطي
لصاحبها الحق في أن يصبح مدربا لغيره . وكل هذا يدور في إطار ذاتي بعيدا عن
المؤسسات العلمية الراسخة مثل الجامعات ومراكز الأبحاث والتي ظلت متشككة
في أصالة ودقة البرمجة اللغوية العصبية وفي برامج التنمية البشرية , ولذلك
لم تدخل هذه الأشياء ضمن المحتوى العلمي لتلك المؤسسات , ولهذا ظلت جهودا
ذاتية واجتهادات شخصية مرسلة في أغلبها , وقد ترتكز على بعض الأصول النفسية
وخاصة العلاج السلوكي المعرفي أو على بعض التيارات النفسية الفلسفية
كالمدرسة الوجودية والمدرسة الإنسانية , ولكنها لاتلتزم طوال الوقت بحدود
تلك المدارس فتجنح يمينا ويسارا طبقا للأمزجة الشخصية واستنادا لقواعد
تسويقية . والحق يقال أن من قاموا بمهمة المزج والتبسيط والتسويق كانوا
أكثر قدرة ومهارة في نقل المادة المراد تسويقها إلى أكبر عدد من الناس عبر
قاعات التدريب والوسائط الإعلامية المختلفة , واستخدموا في ذلك لغة الناس
اليومية , واستبعدوا المصطلحات النفسية والإدارية الصعبة .
ومع هذا فقد خالط تلك البرامج الكثير من الأخطاء والمغالطات (ستتضح
تداعياتها لاحقا) على الرغم من أنها تحاول الظهور بالمظهر العلمي الدقيق ,
ولكن الحقيقة أنها أصيبت بفيروسات هائلة نظرا لرفضها الدخول تحت مظلة العلم
المنهجي , تلك المظلة التي تضمن وجود برامج مضادة للفيروسات , بمعنى أن
المنهجية العلمية تضمن عدم الشطط وعدم الخضوع للتحيزات الشخصية كما تضمن
مصداقية النتائج وثباتها .[/size]